إيلي أمينوف
المنتدى الديمقراطي، مارس 2010
http://www.onerepublic.org/2010/05/blog-post_7230.html
الانهيار النهائي للصيغة الكاذبة “دولتين لشعبين” هو أمر واقع، ويشرح بشكل جيد للغاية الذعر التي يبثها المتحدثون الإسرائيليون من جميع أنحاء الطيف السياسي الصهيوني. لسنوات عديدة شكلت فكرة “دولتان لشعبين” تغطية ممتازة لاستمرار الاحتلال من خلال تحويل قيادات منظمة التحرير إلى مقاولين ثانويين لها. الأن، وأخيرا، فقد انهارت هذه المعادلة الكاذبة علنا وبشكل واضح. ولقد ساهم في الكشف عن هذه الخديعة تبنيها من قبل حكومة إسرائيل الحالية، والتي يفوق بطشها بالشعب الفلسطيني بطش الحكومات السابقة.
ويأتي الدليل الساطع على الإفلاس التام لحل “دولتين لشعبين” من وزراء حكومة السلطة الفلسطينية وكبارالمسؤولين هناك. فلقد زودنا هؤلاء بعشرات التصريحات على غرار “امكانية نقل تأييدهم” من فكرة الدولتين إلى فكرة الدولة الواحدة المشتركة، وحول فشل الرؤية القديمة التي ماتت قبل ولادتها. فاذا كان هذا الفريق، وهو الوحيد المستفيد والذي يسمن من شعار الدولتين، بات يتخلى عنها علنا، فلا بد بأن هذا الشعار الفارغ قد وصل إلى الهاوية في بورصة الأوهام.
لا أحد يعتقد الآن بأن حكومة نتانياهو- ليبرمان – يشاي والمدعومة من ايهود باراك (من الداخل) وتسيبي ليفني (من الخارج)، ستسمح بنوع ما من السيادة الفلسطينية، حتى ولو داخل جزيرة البنتوستانات المبعثرة والمجزئة في الضفة الغربية. رغم ذلك، فإن حكومة الولايات المتحدة لا تزال تدعم الموقف الإسرائيلي علنا، في حين تواصل قيادة السلطة الفلسطينية التعاون مع اسرائيل في جميع المجالات، وتخضع للهيمنة الإسرائيلية. صحيح أن السلطة الفلسطينية تحاول انقاذ ماء وجهها بالامتناع عن محادثات مباشرة مع اسرائيل، ولكن في الحقيقة فإن المحادثات والتنسيق بين أجهزتها وأجهزة القمع الإسرائيلية لم يتوقف ولو للحظة.
الهدف الحقيقي من حل “دولتين” هو الحصول على إعتراف القيادة الفلسطينية بـ “الدولة اليهودية”، القائمة على موتيف الفصل، والراسخ في مقولة رابين “نحن هنا وهم هناك”، والحفاظ على الدولة التي تقوم على العنصرية المتخلفة، وفي الوقت نفسه تعزيز القيم الطائفية البدائية. على أساس هذا البرنامج نمت الاغلاقات، والحواجز، والطرق الالتفافية، وجدار الفصل وإقصاء الفلسطينيين عن حقوقهم وأراضيهم. وتدريجيا بدأت وسائل السيطرة والاقصاء تزحف من مناطق 1967 إلى داخل مناطق 1948، لتصبح بارزة ومكشوفة. حيث نشاهد المستوطنات الجديدة، والشوارع الالتفافية المحيطة بالبلدات العربية داخل مناطق 1948، تماما كما في مناطق 1967. هكذا تم استخدام شعار “الدولتين” ليس من أجل تغيير الواقع، بل من أجل مؤسسة، وتعزيز وتحصين نظام الفصل العنصري.
يفتح انهيار ديكور “رؤية” الدولتين ثغرة جديدة في الفرص السياسية والوعي الجماهيري. ولكن لحظات فقط قبل تحول هذه الثغرة إلى حقيقة، يقوم حرس النظام القديم ومساعديهم بسدها بشكل فعال، بهدف تحويل النضال إلى المسر القديم والمعروف، ويهدف سد الطريق أمام الوعي الجديد. أما جهاز الفرملة فيسمى “الدولة ثنائية القومية”، ليصبح أخر صرعة؛ إنها خطة قديمة والتي ستتحول كسابقتها إلى طُعم للجماهير ولتساهم في خداعهم وتأييدهم. ويتم هذه المرة تجنيد فريق الدعم مباشرة من الاكاديمية ومن بين نخب ومثقفي إسرائيل اليهودية.
معادلة “الدولة ثنائية القومية” هي عمليا وبكلمات أخرى معادلة الكونفديرالية، والتي تعود من الباب الخلفي بعد إبعاد معادلة الدولتين. فالدولة ثنائية القومية تضمن عمليا امكانية العودة للمطالبة لخطة التقسيم إلى دولتين؛ فكل “قومية” يمكنها المطالبة بممارسة حق تقرير المصير، وحتى الانفصال. هكذا نعود عمليا إلى نقطة البداية التي أوصلتنا إلى المأساة الحالية.
أثنين من أكثر المتحمسين لحل “ثنائية القومية” استطاعوا الاستحواذ على جمهور واسع، وهما ميرون بنبنستي وبورفيسور يهودا شنهاب. وفي الجانب الفلسطيني فقد تم اقتراح هذا الحل قبل عدة سنوات من قبل د. عزمي بشارة.
وكان ميرون بنبستي قد نشر في مجلة “مطاعم”، عدد كانون الأول 2009، مقالة بعنوان “نعم، من أجل حل ثنائي القومية للصراع”. كما كرر بعض المواقف نفسها في مقالات في صحيفة “هآرتس” مؤخرا. ويشرح في مقالته أنه وبعد أربعين سنة من الاستيطان في الأراضي، لا يمكن اعتبار المستوطنات احتلالا أكثر مما في فترة الاستيطان الأولى. وأن ما يحافظ على السيطرة الإسرائيلية ليس سوى الشوارع الإلتفافية، سرقة الأراضي ونظام الحواجز. وهو يشير بشكل دقيق إلى نجاح إسرائيل في تهشيم الأمة الفلسطينية وتفتيها إلى خمس متجمعات منفصلة ومنعزلة تخشى من وضع برنامح قومي موًحد. ويشير كيف أن غالية العالم توافق على هذه الوضعية، وكيف تستغل إسرائيل “الخوف الديمغرافي” وتلوح به وكأنه قنبلة موقوتة. لكنه يمتنع عن توصيف الوضع السياسي الحالي على أننا أمام دولة تمارس الفصل العنصري. كما أنه يلغي مسبقا امكانية أن تقوم هنا ما يسميه “دولة وحدوية مثل جنوب افريقيا اليوم”. وبعبارة أخرى، انه يرفض على نحو قاطع استبدال نظام الفصل العنصري بدولة ديمقراطية علمانية ، ويستغل الاشكاليات في جنوب أفريقيا كذريعة لذلك. يطلق بنبستي على الحل العملي الذي يقترحه اسم “المساواة في الاحترام”. شيء يشبه الاتفاقات في ايرلندا الشمالية. بنفنستي يدعو إقامة دولة يهودية التي تسيطر على جميع أنحاء المنطقة، وحكم ذاتي للفلسطينيين في الأشلاء المتناثرة كالجيوب داخل مناطق السيادة الحقيقية.
أما بروفيسور يهودا شنهاب، فيكشف في كتابه الجديد “فخ الخط الأخضر” من إصدار عام عوفيد، 2010، عن عدة استنتاجات حكيمة وممتازة. فهو يشرح كيف يخفي نموذج 1967 في داخله الوضع القائم في 1948، ويشرعن جريمة النكبة؛ كما يكشف عن عنصرية اليسار الصهيوني، ويُعرًف إسرائيل اليوم بدولة الفصل العنصري ثنائية القومية. وفي خضم اقتراحاته لحل الصراع، يمتنع من التطرق مباشرة لتعويذة “ثنائية القومية”، لكن حلوله التي يعرفها هو على أنها “أمثولة” تندرج تحت هذا الاطار.
يقول شنهاب أن الحل الأقل مرغوبا هو حل “دولة جميع مواطنيها”، وهي الحل الوحيد الأقرب للدولة العلمانية الديمقراطية؛ أي دولة واحدة مشتركة يتمتع مواطنيها بالمساواة التامة بالحقوق. أما النموذج الثاني المقبول عليه أكثر، فهو “تقسيم السيادة ومنح حقوقا قومية ودينية كاملة للشعبين”. لكنه يعترف بأن هذا النموذج يكرس، نوعا ما، نموذج الدولة اليهودية القائم.
شنهاب بفضل نموذج “الديمقراطية الوفاقية”. ويقول أنه يمكن التوصل إلى هذا الحل عبر توزيع الحيز القائم لحيزات قومية صغيرة على هيئة كنتونات. ويضيف شنهاب تحفظ وحيد لهذا النموذج، حيث يشترط تقسيم الحيز بشكل لا يضر بالسكان القاطنين. وهو يقول أنه من غير الاخلاقي إخلاء المستوطنين، وأنه يجب السماح لهم بالبقاء في اماكنهم. ومن المؤسف أنه حتى لا يقترح فتح المستوطنات أمام السكان الفلسطينيين إلى جانب اليهود، والقضاء بذلك على الفصل العنصري. كما يقفز شنهاب وبلباقة عن مسألة فصل الدين عن الدولة. فهو يقول أننا نعيش في عصر “ما بعد العلمانية”، ليحل نفسه من التعامل مع مسألة ماهية العلاقة بين الدين والدولة.
فعندما يكتب شنهاب أنه “بالامكان التفكير بنموذج سياسي يتضمن برلمانين، واحد للأكثرية اليهودية، والثاني للأقلية الفلسطينية”، فهو يقول عمليا أنه الفلسطينيين سيبقون دائما أقلية، أي أنه لن يتم تحقيق العودة. في تبنيه لنموذج الفصل بين اليهود والعرب، فإن شنهاب يموضع نفسه في مركز المستنقع الصهيوني، التي يدعي أنه حاول الخروج منه. هذا يعني أن كتابه هو نص صهيوني بكل ما تعنيه الكلمة.
المبدأ المشترك بين بنبستي وبين شنهاب، هو طريقة موافقتهم على وجود المستوطنات اليهودية كحقيقة ثابتة لا يمكن تغييرها. فكلاهما يلوحان بمقولة “لا يمكن تصحيح الغبن بغبن آخر”. لكن هذه فلسفة فارغة من كل مضمون. فيجب، بل ويمكن اصلاح الغبن الهائل مثل جريمة التطهير الإثني للأمة الفلسطينية. المطلوب هو فقط تغيير التوجه القائم في صلب الاستعمار الكولونيالي. تماما مثلما يجب ويمكن الغبن الذي تخلقه علاقات القوى الاقتصادية التي تنتج الفوارق الهائلة في دخل الفرد (بنسبة 1 إلى 25)، وذلك عبر وسائل تجسر هذه الهوة. فحل الصراع بين الصهيونية وبين الشعب الفلسطيني ليس مسألة تغييرات تجميلية.
يجب التذكير بأن حق عودة اللاجئين الفلسطينين إلى المناطق التي طردوا منها، لا يمكن تحقيقه في ظل الدولة “ثنائية القومية”. فهذا المخلوق الهجين يقوم على أساس مناطق ذات فئات أثنية واحدة، لا يمكن للطرف الآخر السكنى فيها. ضمن هذا الاطار المشوًه والرجعي تتم المحافظة على المستوطنات، و ربما على الكيبوتسات، كتجمعات فصل عنصري ذات فئة أثنية واحدة. أي أن الدولة اليهودية تستمر بوجودها كمؤسسة مهيمنة على هذا الاطار.
كما يمكننا ملاحظة نزعة الدولة ثنائية القومية لدى مؤيدي حل الدولتين، مثل مجموعة “ترابط” والتي هي تشكيلة من الجبهة الديمقراطية والتجمع الديمقراطي. في عام 1991 كان عزمي بشارة أول من اقترح فكرة توزيع السلطة داخل إسرائيل بين الأكثرية والأقلية، عبر كراسة “الحكم الذاتي للفلسطينيين في إسرائيل”. وكان تنظيم “الفنار” النسوي الفلسطيني قد أماط اللثام عن عيوب هذا الحل. حيث أشارت عضوات التنظيم إلى أن هذا الحل يعزز المؤسسات الأبوية التقليدية، ويؤثر سلبا على تقدم النساء.
أيضا اليوم تحذر بعض النسويات الفلسطينيات من تبني وثائق التصور المستقبلي التي تؤدي إلى دولة ثنائية القومية، دون الأخذ بالحسبان مكانة النساء. ففي العدد 34 من مجلة “نظرية ونقد”، ربيع 2009، (بالعبرية) تكتب ليليان أبو طبيخ أن “المطالبة بالتعامل مع الاختلاف الثقافي في مسألة الأراضي، المسكن وتوزيع الموارد، ستؤدي بالضرورة إلى استمرار ظلم النساء، حيث تتم التضحية بحقوق النساء من أجل الحفاظ على الثقافة وحمايتها من القوى الكولونيالية”. ومما لا شك فيه بأن هذه النزعة ستستمر ضمن الدولة ثنائية القومية. فعندما يتم فرض الحدود الثقافوية والطائفية على المجتمع، حتى ولو بقوة الاتفاقيات المقبولة، فإن النساء همن مؤشر حدود هذا النطاق. فقط عندما يتم ترسيم هذه الحدود بواسطة الانضمام الطوعي، تستطيع النساء ويستطيع الرجال الانتقال من مجتمع إلى مجتمع بحرية.
فقط في الدولة العلمانية الديمقراطية (وهو نموذج ليس بجديد، وعليه تقوم اليوم الدول المتطورة، وبعض الدول النامية) تستطيع جميع فئات المجتمع من التمتع بحقوقها الثقافية. لا توجد اليوم أية إشكالية بممارسة المساواة اللغوية، حيث يكفي نشر كل وثيقة رسمية باللغتين، والتأكد من وجود موظفين في كل مؤسسة يجيدون التحدث باللغتين. السكان العرب في إسرائيل يمارسون هذا الأمر فعلا، تماما كما في جميع مؤسسات الاتحاد الأوروبي. ولا توجد مشكلة في كتابة اللغتين على كل لافتات الطرق. طبعا يجب تخصيص ميزانيات لمؤسسات التربية والتعليم بشكل متساو، ويحب تدريس تاريخ البلاد والمنطقة، وأن يتعلم كل طرف أدبه ولغته إلى جانب تعلم أدب ولغة الطرف الآخر.
ثمة أطرف مختلفة تخشى حل الدولة العلمانية الديمقراطية. وثمة من يحاولون مرة تلو المرة اقناعنا بالتخلي عن “العلمانية”، بهدف نيل اعجاب “قوى اجتماعية” متنفذة لا تقبل بهذا الحل. هؤلاء يتجاهلون الحقيقة بأن التخلي عن “العلمانية” يعني التخلي عن مفهوم “الديمقراطية”. الدولة ثنائية القومية هي ضمنا دولة غير ديمقراطية. فالمؤسسات المركزية في هذه الدولة تنتخب عمليا على أساس إثني، وليس من قبل الأغلبية الديمقراطية؛ أي أن شخص واحد – صوت واحد. كما توجد محاولات للتملص من فكرة العلمانية الديمقراطية تحت ستار الدولة “العلمانية-الديمقراطية-ثنائية القومية”. لكن جميع هذه الحيل لن تنجح، لأن الدولة ثنائية القومية هي بمضمونها دولة مناهضة للديمقراطية.
نأمل بأن الانفتاح الجديد على هذه المسألة سيؤدي إلى مناقشة مستفيضة لشكل النظام المرجو، والذي نأمل أن يستبدل المبنى الفاشل القائم للدولة اليهودية، التي ليست علمانية وليست ديمقراطية.