بيسان عدوان
2018-03-24
شكلت قضية “اللاجئين وحق العودة” أحد الملفات الشائكة في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية منذ بدء مرحلة الوضع النهائي من اتفاقية أوسلو والتي بدأت برفض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات للمقترحات الأميركية والإسرائيلية فيما عرف بـ “كامب ديفيد 2 ” عام 2000 إلي يومنا هذا، ويرتبط “حق العودة” الذي يعد أحد أهم ثوابت القضية الفلسطينية بمصير ملايين اللاجئين الذين هُجّروا من مدنهم وقراهم ومنازلهم قسراً إبان النكبة عام 1948 وتفرقوا في أنحاء شتي من العالم لكن الغالبية الساحقة منهم تركزت في الأردن وسوريا ولبنان..
كثير من المهتمين في الشأن العربي/الاسرائيلي بل والفاعلين في ذلك المحور يعلمون علما اليقين أن القضية الفلسطينية وجوهرها “حق العودة“، تمثل المفتاح الرئيسي لأية تسوية مرحلية/أو حلول ناجزة للصراع الفلسطيني/الاسرائيلي تحديداً، سواء كان المبادرون لطرح حلول للصراع من الغرب الحليف لإسرائيل أو من الداعمين للفلسطينيين ورغم كل ما قدمه هؤلاء في مبادراتهم من مساومات على حق العودة بدءاً من مقولة العودة الرمزية وليس انتهاء بمقولة حق العودة مقابل الدولة والتي أثبتت السنوات العشرين فشلها على أرض الواقع نظراً للسياسات الإسرائيلية التي حالت دون تحقيق دولة فلسطينية على 22% من الضفة الغربية والقطاع وما تلاها من فصل وتقسيمات وكانتونات داخل مناطق “الدولة المفترضة“، كلها تكسرت أمام استحقاقات الحل النهائي كالقدس والمستوطنات والحدود والمياه وأهمهم ”حق العودة.“.
دخل الفلسطينيون وقضيتهم بعد ما سمي بالربيع العربي وتداعياته في المنطقة ولا تزال تشهده إلي عصور من التيه، فالصراعات القائمة داخل الدول العربية المركزية، والتي أعادت هذه الدول عشرات السنين إلى الوراء، مستمرة تحت رعاية الغرب تسليحاً وتمويلاً، إلى جانب توظيف المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها أميركا لقيادة الحلول السياسية في هذه الدول وتأمين انتقالها إلى نظام سياسي جديد كل ذلك أنتج مفاهيم جديدة وخطاباً مختلفاً لدى الأطراف الفاعلة في البيئة الإقليمية كإيران وتركيا وروسيا بجانب الأطراف المتنازعة بالوكالة كسوريا واليمن والعراق وليبيا إلا أن الطرف الوحيد الذي لم يتعاطَ مع تغير الخطاب والسياسات فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو الطرف الفلسطيني نفسه، فمع كل ما يحدث في سوريا واليمن وليبيا والعراق، والرؤية الواضحة لنتائجه في إضعاف الجبهة العربية المقاومة للاحتلال، تراجع خطاب مقاومة حماس إلى مطالب فك الحصار وتقاسم مغانم السلطة والطموح بمقاطعة تابعة لتركيا أو قطر جوهرياً، كما تراجع خطاب فتح لينتهي إلى المطالبة بتحرير مناطق -أ- ضمن الحلول القديمة “دولة فلسطينية ذات حكم ذاتي محدود. “.
البيئة الفلسطينية ليست أقل ارتباكاً من البيئة الإقليمية، فهناك طرفان فلسطينيان متناقضان في قراءة المتغيرات وبالتالي مختلفان ومتناقضان في وضع رؤى واضحة للشأن الفلسطيني وقضاياها المصيرية، فحركة فتح التي تقود المنظمة والسلطة الفلسطينية، اتخذت نهج التفاوض الذي لم يسفر عن شيء سوى الانشغال بالتفاوض على فتح معبر أو إدخال سلعة، أو ترخيص محطة غاز في مناطق –ج-، وبينما تراوح حركة حماس مكانها بين ارتباطها العضوي بالإخوان ومشروعهم الغزاوي بعد سقوط نظام الإخوان في مصر، وتصنيف أخواتها في الشام واليمن وليبيا وحتى الأردن كجماعات إرهابية. وتوظيف الولايات المتحدة الأمريكية لتلك التيارات والعناصر لهدم الدولة “الوطنية” ونسيجها الاجتماعي..
في ظل تلك المتغيرات الإقليمية والفلسطينية وانشغال التيارات الفلسطينية في الحفاظ على مكتسباتها الهزيلة والصراع الداخلي بين التيار الرئيسي وبين فتح وحماس تخرج أصوات إسرائيلية وغربية ودراسات غربية تستنتج ضرورة الإسراع في فرض حلول للقضية الفلسطينية قبل أن تستقر الأوضاع في المنطقة مع وجود تيارات وأنظمة جديدة في المنطقة قد تكون أكثر تشدداً وقوة في الدفاع عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني..
نجد بعض الدراسات تحاول إعادة قضية اللاجئين الفلسطينيين الي الاطار الإنساني مع استبعاد تام لإطارها السياسي المتمثل في حق العودة وفق القرار 194، ورغم بعض الاعتبارات لهذا القرار الذي لا يضمن بذاته الحقوق الأصيلة للاجئين لكنه يضمن العودة والتعويض لمن أُخرجوا من ديارهم عام 1948 – ورغم ما عليه لكن كل المبادرات التاريخية تعاملت مع هذا القرار باعتباره رمزياً..
حقوق اللاجئين و”حق العودة ” في ظل الأطروحات المختلفة
بعد سيادة خيار دولتين لشعبين طيلة عشرين عاماً، ظلت مسألة حقوق اللاجئين الفلسطينيين متنازع عليها وليس لها محل من الإعراب بجانب أن إسرائيل عملت على خلق دولة ” كانتونات” في الضفة الغربية للحيلولة دون تطبيق حق العودة لكل اللاجئين الفلسطينيين، فإذا أشرنا إلى أن اللاجئين الفلسطينيين يشكلون معظم أبناء الشعب الفلسطيني ويعيش غالبيتهم خارج وطنهم فلسطين مع العلم أن 40 % من سكان الضفة وغزة هم من اللاجئين، ما يعني أن الدولة الفلسطينية ستواجه مشكلة ضخمة تتمثل في استيعاب الأعداد التي قد ترغب بـ “العودة” من الخارج وأولئك المتواجدين في الضفة والقطاع. وهذا يتطلب قدرة استيعابية ضخمة وإمكانات مالية هائلة وتوفير مساحات كافية من الأرض. وهذا يقضي أن الدولة ستكون غير قابلة للحياة والتطور والاستقرار وسيدفع مواطنيها إلى التفكير بالهجرة بحثاً عن العمل وعن مكان أكثر أمناً واستقراراً وهدوءاً وقادراً على توفير احتياجاتهم واحتياجات أسرهم. لذا اتبعت إسرائيل سياسات تعسفية من شأنها وضع عراقيل لاستيعاب الدولة الفلسطينية الجديدة لكل اللاجئين الفلسطينيين بل أقل ممكن منهم حتى تستطيع في المستقبل الحد من أي مخاطر بشأن التزايد الطبيعي للسكان الفلسطينيين في فلسطين التاريخية فقامت باجراءات على أرض الواقع لتكون نقاط انطلاق في حالة “التفاوض النهائي ” بشأن الحل النهائي منها الانفصال أحادي الجانب في غزة عام 2005، جدار الفصل العنصري الذي اكتمل بناؤه وخلق كانتونات داخل الكانتونات في المدن والقرى الفلسطينية داخل مساحة الدولة الفلسطينية المرتقبة، وبجانب زيادة وتيرة الاستيطان بكثافة في الضفة الغربية خارج جدار الفصل حتى تصير منطلقات لاخراج مساحة الكتل الاستيطانية من إطار التفاوض النهائي بشأن قيام الدولة الفلسطينية.
حل “عادل لقضية اللاجئين“ تلك الجملة المبهمة التي ظلت دولة الاحتلال الاسرائيلي تفرغها من أية استحقاقات، فعملياً قضي على “حق العودة ” في الدولة الفلسطينية الجديدة ضمن إطار حل الدولتين، دولة فلسطينية في مناطق الضفة الغربية وتشمل القدس الشرقية وقطاع غزة بما نسبته 22% من مساحة أراضي عام 1967، ذلك الحل الذي قام على الاعتراف المتبادل بين الطرفين. وظل التلويح بحل الدولتين من الجانب الإسرائيلي مرهوناً بسبل الفصل بين الدولتين، والهاجس الديمغرافي، والحفاظ على الطابع اليهودي لإسرائيل. وبقى قيام الدولة الفلسطينية عرضة للسياسات الإسرائيلية في فرض الأمر الواقع على صعيد تضييق الهامش التفاوضي وتوسيع رقعة المشروع الاستيطاني ومشكلة اللاجئين والحل الدائم لهم.
فرغم صعوبة عودة اللاجئين -عملياً- في إطار حل الدولتين بعد التغييرات التي فرضتها إسرائيل على أرض الواقع، فإن ذلك الحل يعتريه ضعف في توفير إجابات شافية لمصير قطاعَين مهمين في الشعب الفلسطيني هما الفلسطينيون داخل “إسرائيل”، واللاجئون الفلسطينيون. خاصة أن المشكلة الأساسية التي تؤرق الدولة العبرية هي الحفاظ على يهودية الدولة، وفي حالة التسليم يهوديتها فإن الحل سيدوم جزئياً ويقف حجر عثرة أمام حق تقرير المصير لجموع الشعب الفلسطيني عموماً، ومصير الفلسطينيين داخل إسرائيل خاصة أن القيادات الفلسطينية اعتبرت أن تلك القضية شأناً إسرائيلياً داخلياً، من جهة، وأن إسرائيل تستمر علناً بعدم سماحها للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلي ديارهم الأصلية التي هُجّروا منها معللة بأن ذلك يتنافي مع الطابع اليهودي للدولة والتي وضعت الاعتراف به شرطاً رئيساً لاستئناف أي عملية تفاوض مستقبلية.
“يهودية الدولة“، في حال الاعتراف المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين عليه في المستقبل يتنافى بالضرورة مع حقوق اللاجئين، الأمر الذي يقود إلى منطق المقايضة، بمعنى مقايضة حقوق فلسطينية بأخرى، وطيلة السنوات الماضية خرجت علينا مبادرات ووثائق توحي بأن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي مرهوناً بالتنازل عن حق العودة للاجئين والمهجرين الفلسطينيين منها وثيقة سري نسيبة/عامي ألون، ووثيقة جنيف لياسر عبد ربه، بجانب الحلول المطروحة من قبل مراكز دراسات غربية حول اعتماد “الطابع الإنساني” لعودة اللاجئين الفلسطينيين ضمن حلول ”لم الشمل” و “التوطين” كأساس للمعضلة الفلسطينية كما المبادرة الفرنسية التي طرحت مؤخراً.
سيناريوهات العودة في ظل حل الدولة الواحدة
يتلاءم حل الدولة الواحدة أكثر من حل الدولتين لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس الحقوق. ويوفر حلول ناجزة للشعب الفلسطيني بقطاعاته الثلاثة بعيداً عن التجزئة في الحلول وتطبيق حق تقرير المصير على أرضه، على اعتبار أن هذا الطرح يتعامل مباشرة مع أصل الصراع وتباعته وهو ما يعزز الهوية الوطنية على كامل الوطن الفلسطيني، كما يوفر صيغة لتطبيق حق اليهود الإسرائيليين في تقرير مصيرهم في القبول بالمساواة في المواطنة مع الفلسطينيين والحقوق والواجبات على أرض فلسطين التاريخية أو الخروج من تلك الدولة التي فقدت طابعها اليهودي وبالتالي فقدت مميزاتها في دولة إسرائيل ونظراً لأن الحلول الإقليمية كحل الدولتين أصبح مع الممارسات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة غير ممكن فكثر الحديث مؤخراً عـن “وجـوب طرح الدولة الواحـدة كخطوة تكتيكيـة” لتطبيق حل الـدولتين، ويأتي هذا الطرح على ضوء انحسار الخيارات الفلسطينية على مسار حل الدولتين/دولة الكانتونات.
قد تكون الأفكار الجدية التي يطرحها البعض لدى الجانبين -من قبيل طرح فكرة الدولة الواحدة على أرضية المواطنة الإسرائيلية ومنح اليهود حقوقاً متميزة في إطار الدولة الواحدة، والتنازل عن الحقوق في الممتلكات والانطلاق من الوضع الراهن لتسوية الحقوق التاريخية أو عمل مقايضات بين ممتلكات اليهود الذين هجروا من الدول العربية وبين الممتلكات الفلسطينية، أو أن الحل يجب أن يكون في إطار فلسطين التاريخية ولن يحدث إلا بالقضاء على إسرائيل كدولة، ضرورياً لتوضيح حدود حل الدولة الواحدة. بداية، لا بد من التمييز بين الإقرار بالحقوق كحقوق وبين تحقيق هذه الحقوق.
فلا بد مثلاً من الإقرار بحق الفلسطينيين في العودة وفي التعويض عن ممتلكاتهم بغض النظر عما إذا اختاروا ممارسة هذا الحق أم لا وسواء كانت هناك إمكانية لهذه العودة فعلياً من عدمه. كذلك الحال بالنسبة لرد الممتلكات التي سلبت منهم، مع التفكير في كيفية حل الصراعات والمشكلات التي قد تترتب على الإقرار بهذه الحقوق، ووضع ما يلزم من آليات للتوفيق بين الصراعات والمصالح المتعارضة وعمل ما يلزم من تسويات.
المسألة العملية التي ترتبط بهذا الحق هي التركيز على “قانون العودة الإسرائيلي” وما يشكله من تمييز صارخ بين السكان على أساس ديني وقومي. إن العمل على إسقاط هذا القانون واستبداله بقانون آخر أكثر إنسانية وديمقراطية يعطي حقوقاً متساوية في العودة إلى فلسطين التاريخية واكتساب جنسية تتيح للعائدين بممارسة حقوق متساوية كمواطنين في الدولة يمثل خطوة مهمة على الاقتراب من حل الدولة الديمقراطية الواحدة.
إن قضية التعويض أيضاً تستدعي التعامل مع كثير من الجوانب التمييزية في القانون الإسرائيلي والذي تكشف عنه الأحكام الصادرة من المحكمة العليا الإسرائيلية في قضايا أقامها أصحاب الممتلكات الفلسطينية من فلسطيني عام 1948 أو سكان القدس. ومن الممكن الاستفادة من هذه القضايا لمعرفة التعقيدات العملية التي يشكلها القانون الإسرائيلي الحالي والنظام القضائي الإسرائيلي وقياس مدى تطوره وابتعاده عن طابعه التمييزي ضد الفلسطينيين. وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي يمكن تلعبه المصالح المباشرة للأفراد في تحبيذ أو عرقلة حل الدولة الديمقراطية الواحدة. فمن المتصور أن يلعب من يعتقدون أن مثل هذا الحل قد يقوض أوضاعهم التي استقرت حتى لو كانت على حساب حقوق آخرين أكثر ميلاً لمعارضة مثل هذا الحل، حتى لو كانوا أقلية.
إن حل الدولة الديمقراطية الواحدة هو الحل التاريخي الذي أثبت فاعلية في تطبيقه في صراعات وأزمات معقدة مثل الصراع في دولة جنوب أفريقيا. وساعد هذا الخيار على حل كثير من المشكلات بما في ذلك مشكلة وضع الدستور ووضع أساس للمواطنة قائم على فكر منح المواطنين حقوقاً سياسية متساوية مع التعامل مع الاختلال الاقتصادي الناتج عن تركز الثروة عبر سياسات اقتصادية واجتماعية مختلفة.