سلامة كيلة
2018-02-06
https://www.rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=4719
حين يطرح حل الدولة العلمانية الواحدة في فلسطين يستثار البعض، وأسباب الاستثارة متعددة، لكنها في جوهرها تتمحور حول علمانية الدولة. لكن هناك دوافع أخرى كامنة أو ظاهرة، حيث أن ضرورة العلمانية تصطدم بـ “محافظة” تسكن الأعماق، لهذا يجري تبرير الرفض بأن الوضع يفرض عدم الاصطدام بـ “وعي الجماهير”. وهناك من بات متكيفاً مع حل الدولتين، ويعتبر كل دعوة للدولة الواحدة العلمانية تجاوزاً لما بات في حكم الأمر الواقع، وحتى أن هذا الطرح يوفر إعطاء مبررات للدولة الصهيونية لضم الأراضي المحتلة سنة 1967. وفي هذا التبرير دفاع عن مصالح مكتسبة حققها وجود سلطة، أو تكييف للوعي بما يجعل الخطاب المكرر يتعلق فقط بـ “الدولة الفلسطينية” التي تعني فقط الأرض المحتلة سنة 1967. وهي الأرض التي باتت هي فلسطين.
لهذا من الطبيعي أن تثار الضجة كلما جرى طرح الحل الحقيقي للمسألة الفلسطينية. رغم أن حل الدولة العلمانية الواحدة كان الأسبق. فقد طُرح في النقاش مع اللجان التي توافدت على فلسطين قبل النكبة، وطُرحت بعد هزيمة حزيران سنة 1967، وأصبحت جزءاً من برنامج اليسار الذي سعى إلى “تحرير فلسطين”. لكن كان البرنامج المرحلي الذي بدأ في النقاط العشر هو الذي قلب الهدف، وحرف المسار نحو القبول بدولة على حدود سنة 1967. الذي تكرّس بإعلان الاستقلال في المجلس الوطني المنعقد سنة 1988. هذا الإعلان الذي اعترف بالدولة الصهيونية وفق القرار 181 (وهو هنا يعترف بإقامة لدولة لليهود)، وقَبِل بدولة وفق القرار 242، أي فقط على الأرض المحتلة سنة 1967. وهذه الرؤية باتت هي أساس إستراتيجية كل المنظمات الفلسطينية، وسياستها العملية، وتعبئتها وخطابها، رغم أن البعض منها يعتبر أنها “خطوة” نحو “تحرير فلسطين”، لكن في الواقع يبدو ذلك كغطاء “أيديولوجي” فقط، سواء كان الأمر واعٍ أو كمن في اللاوعي (وهذا هو السبب في نشوء شكل من أشكال الفصام في الخطاب).
إذن، يكون طرح الدولة العلمانية الواحدة متصادم مع الخطاب الفلسطيني الرائج، من اليمين ومن اليسار. ويصدم اليقينية التي تتعلق بخطاب “الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس”، التي باتت معممة، ووصلت إلى حدّ تكريس تقسيم الشعب الفلسطيني إلى شعوب، أو تأكيد أن الشعب الفلسطيني هو سكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط. بالتالي ستكون استعادة الحل في فلسطين قبل انحراف البرنامج المرحلي صدمة لكل “الوعي” الذي تكرّس خلال أربعة وأربعين عاماً، والقائم على أن فلسطين هي الضفة الغربية وقطاع غزة (وهذا ما انعكس على نشاط المنظمات الفلسطينية التي انحصر في هذه المناطق، وما تبقى من النشاط في المخيمات).
من هذا “الوعي” تقوم فكرة أن الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة في جوهرها هي ضم الضفة الغربية وقطاع غزة للدولة الصهيونية، تحت وهم إقامة دولة علمانية ديمقراطية. هذا أمر كرره بعض قادة فتح (أبو علاء وصائب عريقات، وحتى أبو مازن) من منطلق التهديد كي تقبل الدولة الصهيونية بحل الدولتين، تأسيساً على وهم “الديموغرافيا”، حيث سيكون الفلسطينيين أغلبية في هذه الدولة الواحدة، مما يتيح لهم “قلبها” بقدرات سحرية كي تكون هي فلسطين. لكن، ونحن نطرح الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة، ننطلق من منظور مختلف. فنحن لا نراهن على القدر، ولا على الكم، لهذا نضع تحقيق الدولة العلمانية الواحدة في سياق صراعي. لهذا نصرّ على أن المطلوب بالأساس هو إنهاء الدولة الصهيونية كوجود سياسي وعسكري وكأيديولوجية عنصرية، وأيضاً كنظام أبارتهيد. بالتالي فإن قيام الدولة العلمانية الديمقراطية يجب أن يكون على أنقاض الدولة الصهيونية وليس ضمن بنيتها، ولا بسيطرة رأسمالييها اقتصادياً ونخبها سياسياً.
بهذا نحن نطرح الدولة العلمانية الواحدة، من جهة كاسترجاع لحق شعب بأن يؤسس دولته، ومن جهة أخرى كبديل عن الدولة الصهيونية القائمة. الدولة العلمانية الواحدة، التي هي دولة عربية، هي البديل عن الدولة الصهيونية. لهذا شددنا على كلمة فلسطين لكي يكون واضحاً أننا ننطلق من إنهاء الدولة الصهيونية ولسنا في وارد أن يكون الحل ضمنها كما يطرح البعض. رغم أن طبيعة الصراع الذي هو في جوهره صراع عربي صهيوني نتيجة أن فلسطين جزء من الوطن العربي، وأن المشروع الصهيوني هو قاعدة متقدمة للسيطرة الإمبريالية على هذا الوطن، وتكريس تفككه وتخلفه، أن هذه الطبيعة للصراع سوف تجعل فلسطين جزءاً من دولة عربية أوسع.
ولأن الأمر لا يتعلق بمفاوضات، أو بأوهام تقوم على الديموغرافيا، وأننا نسعى لإنهاء الدولة الصهيونية، فقد أشرنا إلى طبيعة الصراع، التي قلنا أنها متعددة، حيث هناك أولاً، وكاستمرار الصراع القائم، المباشر، الصراع الوطني الذي يشمل كل الفلسطينيين، في الأرض المحتلة سنة 1948 و1967، وفي الشتات، والذي له أشكال متعددة. وثانياً صراع طبقي يشمل الفلسطينيين و”اليهود”، وهو صراع يتعلق بنضال المفقرين ضمن التكوين الطبقي الذي هو نتاج البنية الاقتصادية التي تأسست على ضوء الاستيطان الصهيوني. وهو الصراع الذي يجب أن يوجه نحو بناء دولة علمانية ديمقراطية تحقق مصالح هؤلاء المفقرين. وهذا هو عنصر التوحيد بين النضالين الوطني والطبقي. لكن مع ملاحظة أن وضع فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة سيظهر كوضع “استعماري”، أي أنه خاضع لسيطرة استعمارية “تقليدية” بشكل ما، وبالتالي سيكون العنصر الوطني طاغياً أكثر من العنصر الطبقي. وهذا تمايز في بنية التكوين الذي نشأ على أساس استعماري استيطاني بالارتباط على السيطرة الإمبريالية. ولا بد من أن نلاحظ هنا أن انخراط “المفقرين اليهود” في الصراع ليس ناتجاً عن شكل الحل الذي نطرحه بالأساس، بل سيكون ناتجاً عن واقع موضوعي يفرضه الوضع الاقتصادي من جهة، والتأزم الطويل، والقلق نتيجة الصراع الممتد من جهة أخرى. بالتالي ليس خطابنا هو الذي سيفعل ذلك بل تحولات الواقع، وليس خطابنا سوى توضيح لحل حقيقي يمكن أن يتحوّل إلى وعي لدى هؤلاء.
ثالثاً، ما دام الصراع في جوهره هو صراع عربي صهيوني، فإن “تحرير فلسطين” هو ليس من واجب الفلسطينيين وحدهم بل بالأساس هو ضرورة في كل مشروع لتحقيق التطور والوحدة في الوطن العربي. بمعنى أن إنهاء الدولة الصهيونية هو مهمة عربية، وفي إطار مشروع عربي. لهذا لا بدّ من تغيير “النظام الإقليمي العربي” الذي تشكّل تحت مظلة السيطرة الإمبريالية بعد فشل المشروع التحرري العربي، وهذا لا يتحقق إلا من خلال إسقاط النظم القائمة كلها، ونشوء نظم تحمل مشروع التطور والوحدة والحداثة، والتي ستكون معادية للإمبريالية ومعنية بتجاوز الرأسمالية كون النمط القائم هو نمط رأسمالي تبعي. ونرى أن الثورات التي بدأت في البلدان العربية هي الطريق إلى تحقيق ذلك، لكن لا بدّ من إعادة بناء القوى السياسية لكي تحمل هذا المشروع المعبّر عن المفقرين بالأساس. إن هذا التغير في النظم سوف يفرض تطوير الصراع ضد الدولة الصهيونية، وتغيير ميزان القوى. ولا شك في أن هذا الصراع يحظى بأهمية أكبر من الشكلين السابقين لأنه يسهم في تغيير ميزان القوى العسكري، وهو الأمر الذي سينعكس بشكل إيجابي على الشكلين السابقين، بحيث يصعّد من دورهما في كلية الصراع ضد الدولة الصهيونية.
رابعاً، ولأن نشوء الدولة الصهيونية كان بفعل الدول الرأسمالية، وخدمة لمصالحها، وجدنا أن علينا أن نعمل على أن تتحوّل مواقف شعوب العالم، وخصوصاً في البلدان الرأسمالية، فتكون مع إنهاء الدولة الصهيونية، وأن تنشط لعزل هذه الدولة، ومقاطعتها، والضغط في دولها لمنع تسليحها أو دعمها. ولا شك في أن تحولاً كبيراً حصل لمصلحة القضية الفلسطينية، وفي فهم طبيعة الدولة الصهيونية، يجب البناء عليه.
إذن، نحن نعتمد على تصعيد تناقضات متعددة، وإعادة القضية إلى أساسها الصحيح، من أجل إنهاء الدولة الصهيونية وإقامة دولة علمانية ديمقراطية. لا نعتمد على “الشرعية الدولية”، ولا على المفاوضات، ونرفض كل المنظور الذي برّر حل الدولتين، أي ما أسمي: البرنامج المرحلي، الذي تبيّن أنه برنامج إستراتيجي، أسّس لنشوء فلسطين متخيلة هي الضفة الغربية وقطاع غزة. ولا نعتقد أن “النضال السلمي” يوصل إلى حل، رغم أننا نرى أن للصراع أشكال متعددة وفق الظرف الموضوعي، يقوم على العمل المسلح (رغم الظروف التي باتت تحيق به، والتي سوف أتناولها في مقال آخر)، والصراع الطبقي يمكن أن يتخذ في لحظة شكلاً مسلحاً، والصراع العربي ضد الدولة الصهيونية هو صراع عسكري “تقليدي”، أي عبر “الحرب النظامية” التي يمكن أن ترافقها أشكال أخرى.
كل هذه المسائل تحتاج إلى بحث وفهم، فالأمر لا يتعلق بـ “عنترية” تتحدث عن الكفاح المسلح باعتبار أنه موضة، أو تمارسه بعشوائية ليكون بلا جدوى. لكن سيكون الأساس هنا هو أن الحرب هي جزء من الصراع القائم، فليس من الممكن إنهاء الدولة الصهيونية دون ذلك، ودون كل الأشكال التي جرت الإشارة إليها.
انطلاقاً من كل ذلك فإن هدف تأسيس حركة شعبية من أجل فلسطين دولة علمانية ديمقراطية، التي هي ليست حزباً، يتمثّل في إعادة وضع القضية الفلسطينية في سياقها “الطبيعي”، بالتأكيد على أن الاحتلال الاستيطاني يجب أن ينتهي، وأن البديل هو دولة علمانية ديمقراطية لكل مواطنيها. ومن ثم التأشير إلى أشكال الصراع الضرورية (أو الواقعية) التي يمكن أن تفضي إلى ذلك. والعمل على تعميم الرؤية، وتفعيل الصراعات الممكنة على أساس ذلك. أما أكثر من ذلك فيحتاج إلى أحزاب لها إستراتيجياتها ومنظوراتها الفكرية، وهو ما لا نطرحه على أنفسنا ضمن هذه الحركة، لهذا أشرنا إلى أنها حركة شعبية. ونحن نحث على تشكيل أحزاب، ويمكن أن بعضنا يسعى إلى ذلك. فأولاً يجب أن يتحدد المنظور. إن “الحلقة المركزية” الآن هي إعادة بناء الوعي انطلاقاً من الطابع الحقيقي للقضية الفلسطينية، والتأشير إلى طرق تحقيق الحل المطروح.
فلسطين تقوم على أنقاض الدولة الصهيونية، هكذا بالضبط.