النضال الفلسطيني من أجل إنهاء الاستعمار

جِف هالبر وعوض عبد الفتاح

2019-02-21

https://www.arab48.com/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/2019/02/01/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B6%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84-%D8%A5%D9%86%D9%87%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D9%85%D8%A7%D8%B1

ينبغي أن نولي مسألة التحليل أهمية كبرى، وتحديدا إطار التحليل. فمعظم الفشل القائم في مقاربة المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية يرتبط باعتماد إطار التحليل الخطأ. هذا الصراع ليس “صراعًا” بين جانبين متقابلين لديهما قوة شبه متكافئة، بل هو مشروع استعماري اقتلاعي أحادي الجانب. كما لا تختزل القضية بكونها قضية “إنهاء الاحتلال” أو تفاوض على تسويات مرتبطة بالجوانب الفنية و”تبادل” للأراضي، بل قضية إنهاء الاستعمار في البلد بأكمله. ما معناه أنّ القاعدة الفلسفية أو النظرية التي يجب أن ننطلق منها لفهم إسرائيل، هي النظرية الكولونيالية، باعتبارها كياناً كولونياليا وفصل عنصري.

تأسيسا على هذه المقاربة، نطرح السؤال التالي: أية صورة ينبغي أن تكون عليها التسوية السياسيّة، التي من شأنها أن تقودنا إلى تحقيق حالة تُضمن فيها المساواة والحلّ الشامل لمرحلة ما بعد الاستعمار (بما يشمل ضمان حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين شردهم هذا الاستعمار الصهيوني)؟ ما هي الإستراتيجية المطلوبة لتحقيقها، بالنظر إلى التعنّت الإسرائيلي، وبالنظر إلى الدعم الذي تحظى به إسرائيل بين حكومات العالم؟ وكيف يمكن للمجتمع المدنيّ أن يتجاوز أخطاء قادته السّياسيين؟

إنّ من شأن تقوقعنا في النقاش المضلَّل المرتبط بوجود “صراع”، بدلًا من النقاش حول الاستعمار الاستيطانيّ أن يفسّر سبب عدم تمكننا من قطع الطريق على الأبرتهايد الإسرائيلي بشكلٍ فعّالٍ حتى الآن، وسبب فشلنا في صياغة برنامج سياسيٍّ ناجعٍ لإنهاء الاستعمار.

ما هو الاستعمار الاستيطانيّ إذاً؟ إنه نوع الاستعمار الذي يأتي فيه المستوطنون من خارج بلدٍ ما لغرض سلبه، وقد تمثل الأمر، في الحالة الصهيونيّة، بـ”تهويد” فلسطين، أي تحويل بلد عربيّ إلى بلد يهوديّ، يقوم المستوطنون من خلال رفضهم للفكرة القائلة إن السكّان الأصليين يشكلون شعبًا لديه حقوقًا وطنيّة أو جماعيّة خاصة به (من خلال استخدامهم لمقولة “فلسطين أرضٌ بلا شعب”)، حيث يقدّم المستوطنون ادعاءً يمنحهم حقّ السّيادة على البلاد، إذ يعلن اليهود أنهم “يعودون” إلى وطنهم القديم الممنوح لهم من قبل الرّب. وهكذا، يصير المستوطنون، من خلال عمليّة قلب المفاهيم هذه، السّكان الأصليين، فيما يصبح السّكان الأصليون متسللين غير مرغوبٍ بوجودهم. هذا يخلق مفارقةً أساسيّة: إذ ينبغي أن تكون عمليّة الاستيطان عنيفةً، بالضّرورة، لأنه ما من أحدٍ يقبل بأن يتمّ تهجيره من تلقاء نفسه، بيد أن المستوطنين يدّعون، أثناء تنفيذ التهجير، بأنهم لا يرغبون سوى بالعيش بـ”سلام”، وهم، بذا، يقومون بتجريم المقاومة الأصلانيّة الطبيعيّة، فـ”الإرهاب” هو كلمة استعماريّة عريقة.

ولأن المستوطنين لا يمكنهم الاعتراف بالمطالب الوطنيّة أو حتى بالوجود المشترك للأصلانيين من دون أن يقوّض الأمر مطالب المستوطنين الحصريّة الخاصة، فلن تكون هناك أيّة تسوية محتملة. هكذا، يُصار إلى النظر للبلاد باعتبارها فقط “ملكًا” للمستوطنين الذين يصبحون أصلانيين حين يختفي الأصلانيون من الرّواية الوطنيّة ومن المشهد. والواقع أن اختفاء السكان الأصليين وتطبيع الحياة القومية للمستوطنين على أراضي الأصليّين هو الهدف النهائي لهذا الشّكل من أشكال الاستعمار. وبالتالي، فإن الحركة الصهيونية ليست حركة تحرر وطني، أولاً لأنها مجموعة خارجية/ غريبة؛ ثانيا، هي لم تخض صراعاً ضد قوة أجنبية محتلة، بل خاضت حربا عدوانية دموية ضد سكان البلد الأصليين.

يشكّل إنهاء الاستعمار المخرج الوحيد من هذه الحالة، لكنّ الحالة الاستعمارية تنجم عنها نتائج مختلفة، تبعًا لاختلاف الظروف. فقد يتم القضاء السكان الأصليين كما هو الحال في الأرجنتين، أو يمكن تقليص أعدادهم بحيث يتحوّلون إلى أقلّياتٍ غير مهمّةٍ تقطن في هوامش المجتمعات، كما هو الحال في سائر أرجاء الأميركيتين اللاتينيّة والشماليّة وأستراليا ونيوزيلندا. كما ويمكن للمستوطنين أن يجمعوا أشياءهم ويغادروا حينما تصير الظروف غير محتملة، كما فعل الفرنسيّون في الجزائر، وكما فعل المزارعون البريطانيون في إيرلندا، وكينيا، وروديسيا، وكما فعل البرتغاليون في أنغولا وموزمبيق، أو كما فعل الجنوب أفريقيون (البيض) في ناميبيا. ولكن هناك نماذج أخرى، إسرائيل ونظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا، باعتبارهما الحالتين الأبرز. إن المستوطنين في الحالتين كانوا أقوياء بما يكفي لإنجاز عمليّة تشريدٍ كبرى، وإنشاء نظامٍ سياسيٍّ يتمتّع بقدرٍ معيّنٍ من القبول الدوليّ، بيد أن هؤلاء المستوطنين ليسوا أقوياء بما يكفي لإلحاق الهزيمة الماحقة بالسكان الأصليين أو لتهميش نضالهم. في هذه الحالات تصير عمليّة إنهاء الاستعمار أشد تعقيدًا. لقد بدأت جنوب إفريقيا هذه السيرورة، وتم إسقاط نظام الأبرتهايد، حيث لم يعد النضال هنالك نضالًا من أجل التحرر الوطني فقط ، بل صار نضالًا من أجل الإدماج الاجتماعي والتنمية. لكنّ النضال من أجل تحرير/ إنهاء الاستعمار في إسرائيل/ فلسطين، لم يكد يبدأ حتى، إذ أنه خرج عن مساره، وأسيء فهمه بحيث جرى النظر إليه باعتباره “نزاعا” يمكن حلّه من خلال إجراء التسويات التقنيّة. لقد بدأ النضال الفلسطيني، كنضال تحرري من نظام استعماري استيطاني إحلالي، وبدعم وتأييد حركات التحرر الوطني في العالم، وفِي مواجهة القوى الدولية التي وقفت وراء إقامة ودعم إسرائيل. غير أن ما يسمى بالمجتمع الدولي، مارس الضغط على حركة التحرر الوطني الفلسطيني، لتغير من طبيعة مشروعها التحرري، مفرغة أياه من مكوناته الأصيلة التحررية.

كيف يمكننا تحقيق الانتقال إلى ما بعد الحالة الاستعمارية؟

ما الذي سيترتب، إذًا، على إنهاء الاستعمار الحقيقيّ لفلسطين؟ كيف يمكننا تحقيق الانتقال إلى التكيّف مع الحالة ما بعد الاستعماريّة للأصليين/الفلسطينيين – المستوطنين- الإسرائيليين؟ وكيف يمكننا، أخيرًا، تفكيك الاستعمار الصهيونيّ الاستيطانيّ؟ المطلوب هنا هو ثلاثة عناصرٍ رئيسيّة:

يتوجّب أن يفرض على المستوطنين الاعتراف بالوجود الجماعيّ، وبتاريخ وسرديّة وحقوق وسيادة السكان الأصليين.

يتوجب إحلال نظامٍ سياسيٍّ متكافئٍ وشاملٍ وديمقراطيٍّ يحمي الحقوق الفرديّة والجماعيّة لكلّ سكان وشعوب البلاد، بدلًا من النّظام الاستعماريّ المتمثّل في نظام الامتيازات وانعدام المساواة.

يجب إرساء سيرورةٍ يعترف فيها المستوطنون بـِ، ويتقبلون من خلالها، المسؤوليّة عن الجرائم المرتكبة ضد السكان الأصليين.

لو تم استيفاء هذه المتطلبات، فلسوف “يسهم” السكان الأصليون، في المقابل، في توطين سكان المستوطنات، ويسمحون للمجموعة السكانيّة برمتها بالتحول إلى حالة طبيعيّة مشتركة. والسكان الأصليون وحدهم يمكنهم أن يعلنوا عن انتهاء الحالة الاستعماريّة.

تطرح إعادة تأطير “الصراع” الإسرائيليّ – الفلسطينيّ، باعتباره صراعا كولونياليا (استعمار استيطاني)، على الهيئة التي تنظر إليها الحركة التي نمثلها نحن كاتبيّ هذا المقال، وهي “حملة الدولة الديمقراطيّة الواحدة في فلسطين التاريخية”، برنامجًا يهدف إلى تحقيق حالة شاملة ما بعد كولونياليّة. إن برنامج حملة الدولة الديمقراطيّة الواحدة ذَا النقاط العشر، الذي بادر إليه الفلسطينيون بإسناد من شركائهم اليهود الضروريين، يستند إلى مبادئ أربعة أساسيّة:

أولا: ديمقراطيّةٌ متنوعة المشارب الثقافيّة: تدعو ODSC إلى مفهوم الدولة الواحدة الديمقراطيّة من جهة، وهو مفهومٌ يعترف بالحقوق الجماعيّة للشّعوب التي تعيش في البلاد ويحميها. إن الدّولة العتيدة ستوفر، باعتبارها دولةً ديمقراطيّةً دستوريّةً، مواطنةً مشتركةً واحدةً وبرلمانًّا واحدًا، ومساواةً في الحقوق المدنيّة لجميع مواطني البلاد. إن سلطة الحكم وسن ّالقوانين في هذه الدّولة سينبعان بشكل حصري من إرادة وموافقة المحكومين. فيما سيجري تفكيك جميع هياكل وآليات الهيمنة والقمع والتمييز. في هذه الدّولة، الديمقراطية الواحدة، لن تمتلك أيّة مجموعةٍ أو جماعةٍ أيّة امتيازات، ولن تمتلك أيّة مجموعةٍ، أو أي حزبٍ، أو أيّة جماعةٍ، القدرة على فرض أيّة سيطرةٍ أو تحكّمٍ بالآخرين. في مثل هذه الدّولة، سيتمّ احترام الأشكال الأخرى التي تحكم الحياة الشخصيّة للفرد، كالقوانين والأعراف الدينيّة، وذلك في إطار البيئات المشتركة لكل مجموعة بشريّة.

ثانيا: عودة اللاجئين والمهجّرين؛ سيتمتّع اللاجئون الفلسطينيون، وجميع من تم تهجيرهم منذ العام 1948 بحقّ العودة إلى بلادهم وإلى المناطق التي تم طردهم منها.

ثالثا: إنهاء الاستعمار، والتعويض ، والمصالحة؛ ينطوي إنجاز مرحلة ما بعد الاستعمار، على ما هو أكثر من مجرد تسويّةٍ سياسيّة. إذ يتطلّب عمليّة إعادة تشكيل البلد بطريقة تفّكك بشكلٍ تامٍّ جميع هياكل الهيمنة، في الوقت الذي تعاد فيه توزيع الأراضي والممتلكات والموارد الاقتصاديّة لإتاحة تمتّع جميع المواطنين بها بشكل متساوٍ.

رابعا: مجتمع مدني جديد تشاركيّ؛ مع مرور الوقت، يمكن لتجربة العيش المشترك في ظل المساواة والمشاركة الجماعيّة في الحياة القوميّة أن تصوغ هويّةً مدنيّة ومجتمعًا ومؤسساتٍ مشتركة. هذا لا يحل محل السّمات القوميّة أو العرقيّة أو الدينيّة أو الجنسانيّة أو أيّة تنظيمات مجتمعيّة أخرى، بل إنه يدمجها في إطار مجتمعٍ ونظامٍ مشتركين.

بطبيعة الحال، يتطلّب تحقيق مثل هذه الخطّة الطموحة رؤية وخطةً إستراتيجيّة، تقوم على النضال الشعبي الميداني والسياسي والثقافي، على المستوى المحلي، العربي، والدولي . وفي إطار هذه الإستراتيجية، يتوجب على أصحاب المصلحة، من فلسطينيين ومن حلفائهم من اليهود الإسرائيليين، أن يحشدوا المجتمع الدوليّ المدنيّ، بحيث يُصار إلى تحقيق حالة تأييدٍ جارف للقضيّة الفلسطينيّة. وتعتمد التّعبئة الدوليّة الهادفة إلى خلق الدّعم في صفوف الحكومات من أجل حلّ الدّولة الواحدة، على “التوجيهات” التي تتلقاها هذه الحكومات من الفلسطينيين وحلفائهم الإسرائيليين. وحدها الحركة التي تكون قيادتها فلسطينيّة، هي الحركة القادرة على تحقيق التوجيه والقيادة المطلوبّين من أجل تحويل المؤيدين إلى منافحين ودعاة ناجعين عن القضيّة. كلا، لسنا سذّجًا. نحن نعرف أن الغالبيّة العظمى من اليهود الإسرائيليين، حالهم في ذلك كحال معظم البيض في جنوب إفريقيا في حقبة الكفاح ضد الفصل العنصري، لن يكونوا شركاء نشطين في نضالٍ من أجل إنهاء الاستعمار في فلسطين. إن أفضل ما يمكننا أن نصبو إليه، إستراتيجيًا، هو “تليين” هؤلاء من خلال خطةٍ شاملةٍ لإنهاء الاستعمار إلى حدٍّ لن يكون بإمكانهم فيه، كما حصل في جنوب إفريقيا، مقاومة التّحول إلى حالة ما بعد الاستعمار، في المرحلة التي صار فيها نظام الفصل العنصريّ غير قادرٍ على الصمود.

استرشادًا بالتجربة النضالية التاريخية لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، يتوجّب علينا خلق تحالف بين الشعب الفلسطينيّ مع المجتمع المدنيّ الدّولي، من خلال النقابات والجامعات والكنائس والمنظمات الناشطة والمئات من المجموعات العاملة على دعم فلسطين في الخارج، على غرار حملات التضامن مع فلسطين القائمة في العديد من البلدان، وحملة BDS الواسعة والمؤثرة، والحملة الأميركية من أجل الحقوق الفلسطينيّة، والصوت اليهودي من أجل السلام، إلى جانب حلفائنا داخل البرلمانات والحكومات.

يتمثل الهدف النهائيّ الكامن خلف خلق مثل هذا التحالف في حشد دعمٍ واسع الّنطاق في الجمهور الدوليّ، الذي سوف “ينضمّ” ويخلق دعما في صفوف الحكومات لخيار الدّولة الدّيمقراطيّة الواحدة.

مسلحون بالرؤية وبالتحليل السليم، وبخطة وبإستراتيجية كفاح شعبي طويل الأمد، إلى جانب جماعة جيدة التنظيم من المنافحين في الخارج، والقيادة الفلسطينيّة القاعديّة، وجميع هذه العناصر أصلًا موجودة، سيكون بإمكاننا تحقيق النصر.

لقد آن وقت العمل…