سوريا الصالحية واليرموك وتغريبة اللجوء الفلسطيني

ناجي الخطيب

2018-05-01

https://www.rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=4877

الحديث عن منطقة “الصالحية” في دمشق حيث البيوت القديمة وحيث تتجلى ملامح التاريخ في شوارعها الجميلة وفي أزقتها في زمن القَتْل والجريمة لنظام دموي مستبد، قد يبدو حديثاً خارج سياق هذه اللحظات الرهيبة التي شهدتها منطقة الغوطة الشرفية مؤخراً وما يشهده الآن مخيم اليرموك الفلسطيني-السوري الشهيد.

استحضار ما قاله إبن بطوطة عن مدينة “الصالحية” الذي زارها سنة 726 هجرية والتي وصفها بالمدينة العظيمة والتي لها سوق لا نظير لحسنه ومسجد جامع ومارستان، قد يبدو استحضاراً ناشزاً وإذا ما أضفنا له وصف “القلقشندي” الطويل للمدينة، قد يبدو وكأننا نقومُ بفعلٍ استفزازي.

بعيداً عن عبق التاريخ وعن روائح القصف الكيماوي والفسفوري، من الصحيح أن “الصالحية” تبعد الآن بعض الشيء عن اليرموك فأحياء “الساروجة” و”دمشق القديمة” و”القنوات” و”الميدان” و”الشاغور” و”القدم” تفصل ما بينهما ولكن، ورغم هذا البعد الجغرافي، يُوحِد التاريخ ما بينهما، فالنكبة الفلسطينية الأولى على يد الحملة الصليبية في بدايات القرن الثاني عشر، ألقت بلاجئي فلسطين الأوائل من “بني قدامة” في هذا المكان والذي يمكن أن نعتبره “المخيم الفلسطيني الأول” في التاريخ ولكي تُلقي الحملة الصهيونية اللاحقة بالمزيد من أهل فلسطين لكي يستقروا على مقربة من ذلك المخيم الأول ولكي يُشيدوا في منطقة اليرموك مخيمهم الجديد.

“مخيم الصالحية” على سفح جبل “قاسيون” واصل تطوره منذ اللحظات الأولى لوصول اللاجئين الفلسطينيين اليه وذلك على امتداد الحِقب “الزنكية” “والأيوبية و”المملوكية” لكي يصبح “دمشق الجديدة” حيث يندمج الفلسطيني بالشامي لكي يُشكلا جسداً اجتماعياً واحداً فما أبلغُ العبارة وما أكثر وجه الشبه بحاضر اليرموك اليوم، حاضراً مندمجاً بالكل السوري في أفراحه وأتراحه بل وفي إصرار النظام القاتل على تدميره أسوةً بالمدن والقرى السورية الأخرى.

من قَبْل باسل خرطبيل الصفدي، نجم التكنولوجيا المعلوماتية، كان هناك محمد ابن طولون الصالحي الدمشقي، فإن جمع باسل ما بين سوريا وفلسطين لكي يلقى حتفه في سجون النظام وشبيحته، استطاع الصالحي، أي الفلسطيني ـ الدمشقي تجنب هذا المصير ففي كتابه في “أعلام الورى بِمَن وُلي نائباً من الأتراك بدمشق الشام الكبرى” درسَ ظواهر “الفتوة” و”القبضايات” و”زعران” الأحياء الشعبية، فهم وإن لم يكونوا جميعاً في خدمة السلطان و”شريف الأشراف” في المدينة، كانوا نوعاً ما أجداد “شبيحة” النظام اليوم ممن رافقوا بالتأكيد قوى الأمن لاعتقال باسل الصفدي من منزله في منطقة “المزة”.

ما بين محمد ابن طولون وباسل الصفدي، ما بين فلسطين وسوريا، ما بين النكبة الأولى والنكبة الحاضرة المستمرة، وضع الأول أكثر من خمسين كتاباً ولمعَ نجم الثاني في هندسة المعلومات وتقنيات الإنترنت كغيره الكثيرين من أبناء فلسطين ـ سوريا. من الصالحية الفلسطينية السورية اشتهر الكثير من العلماء كـ ضياء الدين المقدسي نسبةً الى القدس وإبن مبرد الصالحي من عائلة عبد الهادي من منطقة نابلس وقطب الصوفية الكبير العلامة عبد الغني النابلسي، مروراً بمحي الدين ابن عربي الأندلسي الذي سكن في الصالحية حتى مماته ودفنه فيها.وفي كتابه في «القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية» يؤرخُ لنا ابن طولون معالم النكبة القديمة بل ويُعدّد لنا أسماء القرى الأصلية في فلسطين والتي قَدِمَ منها لاجئو النكبة الأولى: جماعّين، سيريس، دير عوريف، الفندق، دير إستيا من منطقة سلفيت.

مخيم اللجوء الأول تحولَ مع الزمن إلى مدينة دمشق الجديدة لكي يصبح مكاناً مزدهراً بالتجارة وبالعلم أيضاً ولكي يصبح وجهة طالبي العلم من فلسطين ومن سوريا وليس مكاناً للجوء فقط. الحسن بن محمد البوريني يتركُ مسقط رأسه في “صفورية” لكي يلتحق في “الصالحية” بـِ “المدرسة العمرية” والتي أنشأها الرعيل الأول من الهجرة الفلسطينية من “بني قدامة” وتحديداً من قبل الشيخ أبو عمر بن أحمد بن محمد بن قدامة، سنة 557هـ. ومن هذه المدرسة تخرّج الآلاف من الفقهاء والعلماء والمحدثين وضمت غرفها التي قاربت 360 غرفة نحو الألف طالب في وقت واحد. وكان مدرسوها وشيوخها من أعاظم الشيوخ، فهي أشبه بجامعة تضم كليات لمختلف فئات الطلبة. وكان لها مكتبة خاصة بها عامرة بآلاف الكتب من كل الفنون، حتى ضمت نفائس الكتب وأهمها. وهكذا، وفي الصالحية، التقت أجيال متنوعة من أهل فلسطين وسوريا وتعارفت فيما بينها وإن كانت قادمة من مناطق مختلفة، فالبوريني (نسبة الى قرية بورين قرب نابلس) والذي هو صفوري المولد يتباهى في مدرسته العمرية في الصالحية بانتسابه إلى أهل “الفندقومية” و”جبع” و”آل جرار” و”عبد الهادي”.

“الصالحية”، مخيم اللجوء الفلسطيني الأول ووجهة طلاب العلم لم يكن لها إلا وأن تجتذب لاجئاً آخر وشيخاً متعلماً ومحارباً ضد الحملة الكولونيالية الفرنسية بالجزائر. في الصالحية، حيث عاش ودُفن شيخنا الجليل عبد القادر الجزائري قبل أن يُنقل رفاته إلى الجزائر، اختُتِمت آخر فصول الحملات الاستعمارية من صليبية ومغولية وكولونيالية أوروبية لكي تبدأ حملة الاستبداد المُعَمّم للأنظمة الديكتاتورية المتحالفة مع الحملة الصهيونية والتي تدك الأولى بمدافعها وبطائراتها مخيم اللجوء الفلسطيني الثاني في اليرموك فيما تواصل مدافع وطائرات وقناصي الثانية قتل اللاجئ الفلسطيني في غزة.